كان القاربُ، يتهادى مختالاً، فوق البحر الواسع، وما لبث أنْ شمخ بأنفه، وقال:
-ما أعظمني قارباً!
أمتطي البحرَ الكبير، فينقلني حيثما أريد، ولا يعصي لي أمراً.
قال البحر:
-يسعدني أنْ تعترفَ بفضلي .
-ليس لك أيّ فضلٍ، لأنكَ مسخَّرٌ لحملي.
-أتقضي عمرَكَ على ظهري، وتنكرُ الآن فضلي؟!
-اخفضْ صوتكَ، وأنتَ تحادثُ مَنْ فوقك.
-أتزعمُ أنكَ فوقي، ولم يرفعْكَ غيري؟!
-ما رفعني إلاّ منزلتي وقدري .
قال البحر غاضباً:
-إنك لمعجبٌ بنفسكَ، وما يكون لأحدٍ أنْ يتكبّرَ على ظهري
قال القارب:
-سأظلُّ على ظهركَ، شئْتَ أم أبيت.
هاج البحرُ وثار، فصار موجُهُ كالجبال، وقذفَ القاربَ المغرور، فانطرح على اليابسة، مكسورَ الأضلاعِ، فاقدَ الإحساسِ..
وحينما صحا من إغمائه، حاول أن يتحرّكَ، فلم يجدْ قدرة!
أعادَ المِحاولةَ، ولكنْ دون فائدة..
شعر أنّ حياته قد انتهتْ، وأصبح هيكلاً من أخشاب.
قال نادماً:
-لقد أهلكني الجحودُ والغرور .
ونظر إلى البحر الأزرق، والأمواج الراكضة، فعاودَهُ الشوقُ والحنين، وقال محزوناً:
ا أعظمك أيها البحر!
الديــك والفجـــــر
استيقظ حمدانُ باكراً، فأمسكَ ديكَهُ الأحمر، وربط ساقيه جيداً، ثم ألقاهُ في السلّة، ومضى إلى المدينة..
وقف حمدان، في سوق المدينة، والديكُ أمامه في السلَّة، ينتظر مَنْ يشتريه.. وكلّما مرَّ به رجلٌ، فحصَ الديكَ بناظريه، وجسّهُ بيديهِ، ثم يساومُ في الثمن، فلا يتفقُ مع حمدان، وينصرف مبتعداً..
قال الديك في نفسه:
-إذاً ستبيعني يا حمدان:
وتململَ في السلّة، يحاولُ الخروجَ، فلم يقدر..
قال غاضباً..
-كيف يمدحون المدينةَ ولم أجدْ فيها إلاّ الأسر؟!
وتذكّرَ القريةَ والحرية، فقال:
-لن يصبرَ أهلُ قريتي على فراقي، فأنا أُوقظهم كلّ صباح، و..
أقبل رجلٌ من قرية حمدان، فسلّم عليه، وقال:
-ماذا تعمل هنا؟
-أريدُ أنْ أبيعَ هذا الديك .
-أنا أشتريه.
اشترى الرجلُ، ديكَ حمدان، وعاد به إلى القرية..
قال الديك مسروراً:
-كنتُ أعرفُ أنّ القريةَ سترجعني، لأُطلعَ لها الفجر. وحينما دخل الرجلُ القريةَ، دهشَ الديكُ عجباً..
لقد استيقظ الناسُ، وطلعَ الفجر!
سأل الديك دجاجةً في الطريق:
-كيف طلعَ الفجرُ، في هذا اليوم؟!
-كما يطلعُ كلّ يوم
-ولكنني كنتُ غائباً عنِ القرية!
-في القرية مئاتُ الديوكِ غيرك .
قال الديك خجلاً:
-كنتُ أعتقدُ انّهُ لا يوجدُ غيري
قالتِ الدجاجة:
- هكذا يعتقد كلّ مغرور .
وفي آخر الليل، خرج ديكُ حمدان، وأصغى منصتاً فسمع صياحَ الديوكِ، يتعالى من كلّ الأرجاء، فصفّقَ بجناحيهِ، ومدّ عنقه، وصاح عالياً، فاتّحدَ صوتُهُ بأصوات الديوك.. وبزغ الفجرُ الجميل..
الــمــباراة
أسامةُ تلميذٌ في الصفّ الرابع
وأخته أسماءُ تلميذةً في الصفّ الثالث
أسامةُ ذكيٌّ ومجتهد .
أسماءُ ذكيّةٌ ومجتهدة .
أسامةْ يحبُّ أخته، وينافسها في كلّ شيء.
وأسماءَ تحبُّ أخاها، وتنافسه في كلِّ شيء .
تارةً يتباريانِ في الإملاء
وتارةً يتباريان في الرسم.
وتارة يتباريانِ في التعبير .
و..
مرّةً يفوزُ أسامةُ، فتهنّئهُ أسماء .
ومرّةً تفوزُ أسماءُ، فيهنّئها أسامة.
وكانت أمُّهما المعلّمةُ، تعجبُ بهما، وتشجّعهما على هذا التنافس البريء..
وفي هذا الصباح، استيقظ أفرادُ الأسرة ،
وشرعوا يستعدّون للذهاب إلى المدرسة، فقالت أسماءُ لأخيها:
-أنتَ بطيءٌ في ارتداءِ ثيابك، ولن أنتظركَ بعد اليوم .
-أنا أسرعُ منكِ في ارتداء الثياب .
-دائماً أنتهي قبلكَ وأنتظركَ.
-أستطيعُ أن أثبتَ لكِ، أنني أسرعُ منك .
-كيف؟!
-نجري مباراةً في ارتداء لباسنا المدرسيّ.
أعجبَ الاقتراحُ أسماءَ، فقالت متحمّسة:
-أنا موافقة
-ومَنِ الحكم؟
وتحمّستِ الأُمُّ للمباراة، فنظرَتْ إلى ساعتها، ثم رفعتْ رأسها، وقالت:
-أنا أحكمُ بينكما.
جلبَتْ أسماءُ لباسها المدرسي .
وجلبَ أسامةُ لباسه المدرسي .
مدّ أسامةُ يدَهُ، وقبل أنْ يلمسَ ثيابه، قالتِ الأْمُّ:
-أبعدْ يدَكَ، حتى أُعلنَ بدءَ المباراة .
رفع أسامةُ يده، مطيعاً أَمرَ الحَكَمْ
وقفَتْ أسماءُ، وأمامها لباسها .
ووقفَ أسامةُ، وأمامه لباسه .
أعلنتِ الأُمّ بَدْءَ المباراة، فسارعَ الاثنانِ إلى ثيابهما، يلبسانها بخفّةٍ ونشاط..
وعندما لبس أسامةُ صدارة المدرسي، أدخل الزرّ الأوّلَ، في العروة الثانية، وتابع التزرير، حتى بلغ الزرّ الأخير، فلم يجدْ له عروة، ورأى صداره، طويلاً من جانب، قصيراً من الآخر!
أدركَ خطأَهُ سريعاً، وأخذ يفكّ الأزرارَ، وعندما فرغ منها، بدأ يزرّها ثانية، ولكنه في هذه المرّة، تأكّدَ من صِحَّةِ البداية، فوصل إلى نهايةٍ صحيحة، ورأى طرفي الصدار متساويين.
وحينما رفع رأسه، وجد أُمّهُ وأخته، تنظرانِ إليه وتبسمان..
قالت أسماء:
لقد خسرْتَ المباراة!
قالت الأُمُّ:
أخوكِ ربح درساً نافعاً.
أيّ درسٍ تقصدين؟
الدرس الذي تعلّمه من الزرِّ الأوَّل .
أطرق الأخوانِ صامتين، يفكّرانِ في كلامِ الأُمّ، وعندما فهما ما تعنيه، أشرق الفرحُ على الوجوه، وانطلق الجميعً إلى المدرسة مسرورين، فقد أخذوا درساً قبل أنْ تفتح المدرسةُ أبوابها!
ســـــحابتان
كان هناك سحابتانِ: سحابةُ مطرٍ، وسحابةُ دخان.. كانت سحابةُ المطر، تطوف في أرجاء السماء، فرحة مسرورة، فسمَعتْ نداءاتٍ حزينةً، تصعدُ من الأرض، تستغيث بها، وتطلبُ المطر.. سمعَتْ نداءَ الفلاحين البائسين، ونداءَ الحقول الظامئة.
سمعَتْ نداءَ الأشجارِ الذابلة، ونداءَ الأنهار الناضبة.
سمعَتْ نداءاتٍ كثيرةً وحزينة..
حزنتِ السحابة الرحيمة، ونزلَتْ إلى الأرض، تحملُ الفرحَ والمطر.
صادفَتْ في طريقها، سحابةَ الدخانِ، وهي تصعد إلى السماء، فسألتها قائلة:
-إلى أين أنتِ ذاهبة؟
-أنا ذاهبة إلى السماء .
-مَنْ أرسلكِ إليها؟
-الناسُ أرسلوني .
-ألا تعرفينَ أنّ دخانَكِ يلوّثها؟
-هذا أمرٌ لا يعنيكِ
قالت سحابة المطر:
-السماءُ وطني، ولن أدعكِ تلوّثينه .
-أنا حرّةٌ، أفعلُ ما أشاء .
-لستِ حرّةً، عندما تؤذين غيرك .
وطال بينهما الجدال، وظلّتْ سحابةُ الدخان،
متشبثةً بالعناد، فغضبَتْ سحابةُ المطر، وصبَّتْ ماءها الغزير، على سحابة الدخان..
وتعارك المطرُ والدخان، فانتصرَ المطرُ، وتلاشى الدخان..
ونزل المطرْ إلى الأرض، ولكنّه كان مطراً أسود!
نظر الناسُ إليه، وقالوا مستنكرين:
-مطر أسود!.. ما أبشعه!!
قال المطر، وهو محزون:
-لا تلوموني، ولوموا أنفسكم.
الســــاعة الذهبيــــة
انصرفَ التلاميذُ من المدرسة، وسار الصديقانِ، أحمدُ وغزوان، في طريق واحد..
قال غزوان:
-تعالَ إليَّ اليومَ، لندرسَ معاً
-متى أجيء؟
في الساعة الرابعة .
وافترق الصديقانِ، فذهب كلُّ واحدٍ إلى بيته..
وفي الموعد المحدّدِ، استقبل غزوانُ، صديقة أحمد، وأخذ يحدّثهُ، عن زملاء المدرسة، فيغتاب هذا، ويعيبُ سلوكَ ذاك..
قال أحمد، محاولاً إنهاءَ الحديث:
-ألا نبدأُ بالدراسة؟
-الوقتُ أمامنا طويل.
-الوقتُ من ذهب، وعلينا أن ننفقه فيما يفيد.
-ألم يعجبْكَ حديثي؟!
سكتَ أحمدُ خجلاً..
وتابع غزوانُ الكلام، فتحدّثَ عن إخوته، وألعابهم، وخلافاتهم، و..
شعر أحمد بالصداع، وألقى نظرة على ساعته، فوجدها تشير إلى الخامسة، فرفع رأسه، وقال غاضباً:
-أتدري ماذا أضعْتُ عندك؟
-ماذا أضعْتَ؟
-أضعْتُ ساعةً ذهبيّة!
فوجئَ غزوانُ، ونهض مسرعاً، يبحثُ عنِ الساعة، فوق المكتب، وبين الدفاتر، و..
أحمدُ يراقبه صامتاً..
لم يعثرْ غزوانُ على شيء، فقال يائساً:
-لم أجدِ الساعة
-لن تجدها، مهما بحثت
ونظر غزوانُ إلى صديقه، فرأى ساعته في معصمه!
قال ساخراً:
-أهذه ساعتك الضائعة!؟
الساعة الضائعة غير هذه .
-وهل هي من ذهب؟
-نعم، إنها من ذهب .
وانقطع الكلام، وساد الصمت، وظلّ اللغزُ غامضاً.. أحمد لم يكذبْ، فقد أضاعَ ساعةً ذهبية.
وغزوان لن يجدَها، مهما بحث عنها!
-ما الساعة الذهبية التي أضاعها أحمد؟!
أطرق غزوان، يفكّرُ حائراً..
فكّروا معه قليلاً، فقد تصلون قبله إلى الجواب.
المعلمـــة الصغــــيرة
رنّ جرسُ الدرس..
أسرعَتِ التلميذاتُ إلى الصفّ، وجلسْنَ في المقاعد هادئاتٍ، ينتظرْنَ قدومَ المعلِّمَة..
كانت معلِّمةُ الصف، تناهزُ الخمسين من عمرها، ولكنها لا تزال حازمة، لا تتغاضى عن الشغب، ولا تسامحُ في التقصير، شعارها الجدُّ والنظام، في الدراسة، وفي الدوام، كأنها ساعة عاقلة.
-لماذا تأخّرَتِ اليوم؟!
قالت تلميذة:
-المعلّماتُ مجتمعاتٌ في الإدارة
-متى ينتهي الاجتماع؟
-لا ندري!
فرحَتْ ليلى الصغيرة، وبدأَتْ تتململُ في مقعدها، تميلُ ذاتَ اليمين وذات الشمال، ولا تستقرُّ على حال.. إنها طفلة شقراء مرحة، ماهرة في التمثيل، وتقليد الآخرين، فنالت محبّةَ زميلاتها، بما لديها من دعابة ومزاح.
انتهزَتْ ليلى الفرصة، وغادرت مقعدها..
وقفَتْ في مكان المعلِّمة، على المنصّة القريبة من السبّورة.. وضعَتْ على عينيها نظّارة، مثل نظارة معلمتها، وحنَتْ ظهرها قليلاً، ثم تنحنحتْ، وقالت تقلِّد المعلِّمة:
-بناتي الطالبات!.. مَنْ تذكِّرني بدرسنا السابق؟
انجذبَتْ إليها العيونُ والقلوب، وارتفعَتْ عدّةُ أصابع.. قلبَتِ المعلّمة الصغيرة، شفتها السفلى، ثم هزّتْ رأسها وقالت بصوت راعش:
-أريدُ أصابعَ أكثر.. كيف نأخذ درساً جديداً، وقد نسينا درسنا القديم؟!
كانت التلميذات ينصتْنَ لها مسرورات، والإعجاب ظاهر على الوجوه والعيون.
وفجأة..
تحوّلَتْ عنها العيون، وكسا الذعرُ الوجوه، وغطّتِ الكفوفُ الأفواه..
التفتَتْ ليلى، لتكشف الأمر، فأبصرتْ معلِّمتها، ذاتَ النظارة، واقفة في الباب!
انعقد لسانها حيرة، واحمرَّ وجهها خجلاً، فأطرقَتْ رأسها، لا تدري ماذا تفعل..
مرّتْ لحظاتُ صمتٍ ثقيل، ثم أفلتَتْ ضحكاتٌ محبوسة، من هنا وهناك..
رفعَتْ ليلى رأسها، ونظرَتْ إلى معلِّمتها خلسة، فرأتها تبتسم!
كانت ابتسامتها شمساً مشرقة، أضاءت نفسها المظلمة، وقشعَتْ عنها غيومَ الخوف والحزن..
عادت إليها شجاعتها، وقالت معتذرة:
-أنا آسفة!
-لا داعي إلى الأسف يا بنتي!
-سامحيني على مافعلت.
-لستُ عاتبةً عليكِ
-هل أذهب إلى مقعدي؟
قالتِ المعلِّمة:
-لن تذهبي إلا بشرط.
-ما هو؟
-أن تنضمّي إلى فرقة التمثيل في المدرسة
قالت ليلى فرحة:
-موافقة!
ضحكَتِ المعلِّمة، وقالت:
-اذهبي الآن إلى مقعدك، أيتها المعلِّمة الصغيرة! أسرعَتْ ليلى إلى مقعدها، وهي تكاد لا تصدّق، غير أنها أصبحَتْ على ثقة تامة، أنّ المعلِّمة هي أُمّها الثانية!
الــــورد والعوســــج
عاشت شجيراتُ الورد، أمام بيتٍ صغير، على طرف القرية، وكانت صاحبة البيت العجوز، تحبّ وردَها كثيراً، وتوليه كلّ عناية، وتسقيه كلّ يوم، وعلى الرغم من ذلك، لم يكن الورد سعيداً..
-لماذا؟
-لأنّ الأولادَ يقطفون منه خلسة، والحيوانات تدوس فوقه، وتتلف بعضه.
عاش الورد في حزن وخوف
فكّرتِ العجوزُ في أمره، فاهتدَتْ إلى الحل، وغرسَتْ أشجار العَوْسَج حول الورد..
وعندما كبر العوسج، أحاط بالورد الجميل، شاهراً أشواكه الحادة، كأنه صفّ من الجنود المسلّحين..
حاول الأولادُ اختراقه، فأدمى أناملهم، وانصرفوا يائسين..
ومدّتِ الحيواناتُ أفواهها، فوخزها شوكه، وارتدّتْ غاضبة.
فرح الوردُ بحياته الآمنة، فملأ المكانَ عطراً وسحراً..
وذات صباح مشرق، تفتّحَتْ وردةٌ صغيرة، فرأتْ دنيا جميلة..
غسلَتْ وجهها الأحمر بقطرات الندى، وشرعَتْ تميل مختالة، وترنو حولها، فرأت قربها، شجرة عوسج..
نفرَتْ من شكلها، وخاطبَتْها ساخرة:
-ما اسمك أيتها الشجرة الغريبة؟
-أنا شجرة العوسج.
-ما هذه الحِرابُ التي تحملينها؟!
-هذه أشواكي .
-ما أقبح شكلكِ بهذه الأشواكّ!
-لا أستطيع تغيير شكلي، يا صغيرتي الجميلة!
-إذا كان شكلك قبيحاً، فلمَ تعيشينَ قرب الورد الجميل!؟
قالت شجيرة الورد، وقد نفذ صبرها:
-تعيش قرب الورد الجميل، لتحمي جماله من الأذى .
-بأيّ شيءٍ تحميه؟!
-تحميه بهذه الأشواك، التي تسخرين منها .
-الورد لا يعتدي عليه أحد .
وانقطع الحوار فجأة، حينما مدّ ولدٌ يده، ولوى عنق الوردة ليقطفها، فبدأت ترتجف مذعورة.. هاجمَتِ العوسجةُ الولدَ، وطعنته بأشواكها الحادّةِ، فأبعدَ يدَهُ مسرعاً، وانصرف متألّماً، يفرك ساعده، وينفخ عليه..
قالت شجيرة الورد:
-شكراً لكِ أيتها العوسجةُ الطيّبة!
خجلَتِ الوردةُ الصغيرة، واعتذرَتْ إلى شجرة العوسج، فسامحتها العوسجة، وقالت لها:
-لن أدعَ أحداً يعتدي على شكلكِ الجميل.
قالت الوردة الصغيرة:
-وأنا لن أنكر -بعد اليوم- فعلَكِ الجميل.
النقطـــتان
التقَتْ نقطتانِ، فوق صفحةٍ بيضاء..
وبعد أن تبادلتا التحية، قالت إحداهما للأخرى:
-ما أجملَ هذه الصفحة!
-تعالي، لنسير عليها .
-إذا سرنا عليها، ستمتلئُ خطوطاً .
-وما الضرر في ذلك؟
-نفسدُ الصفحةَ، فلا تصلحُ لشيء .
-اطمئنّي يا صديقتي.. سنرسم خطوطاً لها معنى.
-ماذا تقصدين؟
-اتبعيني، وسترين .
-أنا متعبة الآن .
-انتظريني إذاً، حتى أعود .
-سأنتظركِ.
سارتِ النقطةُ الصغيرة، فوق الورقة البيضاء، راسمة وراءها، خطاً أزرق، ينحني تارة، ويستقيم أخرى..
كانت خطواتها قصيرة، وطريقها طويلة، فأعياها المسير، ولكنها لم ترجع يائسة، بل ظلّتْ ماضية فيما عزمَتْ عليه، حتى بلَغتْ طرف الورقة، فاتجهَتْ نحو الأسفل، ثم انعطفَتْ راجعة، ترسم خطاً جديداً، يبعد عن الخط السابق، وظلَّتْ تحثُّ الخطا، حتى وصلَتْ إلى المكان الأوّلِ، الذي انطلقَتْ منه، فوجدَتْ صديقتها في انتظارها..
قالت لها، وهي تلهث:
-انظري ما صنعْتُ على الورقة!
تأمّلَتْ صديقتها، الشكل المرسوم، وما لبثت أنْ قالت:
-هذه خارطةُ الوطن العربي!
-هل أفسدْتُ بها الصفحة؟
-لقد أحسنْتِ يا صديقتي، فاستريحي حتى أكملَ العمل.
-ماذا ستفعلين؟
-سأرسمُ الحدودَ، بين الدول العربية
-إيّاكِ أنْ تفعلي!
-لماذا؟
-لن نضعَ حدوداً بين الأشقّاء .
فكّرتِ النقطةُ فيما سمعَتْ، ثم قالت مسرورة:
-ما أعظمك يا صديقي!
تبادلَتِ النقطتانِ النظرات، وارتفع منهما هتافٌ واحد!
-لن نرسم الحدود.
-لن نرسم الحدود .
فرحَتِ النقطتانِ، وتعانقتا طويلاً..
شعرتا بسعادة كبيرة، وكرهتا العودة إلى الانفصال لقد صارت النقطتانِ الصغيرتان، نقطةً واحدةً كبيرة: